سورة البقرة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} السين فيه: سين المسألة، مثل استعلم واستخبر ونحوهما، أي سأل السّقيا لقومه وذلك أنّهم عطشوا في التيه فقالوا: يا موسى من أين لنا الشراب، فاستسقى لهم موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: {فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} وكان من آس الجنّة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان متّقدتان في الظلمة نوراً واسمه غليق، وكان آدم عليه السلام حمله معه من الجنة إلى الأرض فتوارثته الأصاغر عن الأكابر حتى وصل إلى شعيب فأعطاه لموسى.
{الحجر} واختلفوا فيه، فقال وهب بن منبّه: كان موسى صلى الله عليه وسلم يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر منها لكلّ سبط عين وكانوا اثني عشر سبطاً، ثمّ يسيل في كلّ عين جدول إلى السبط الذي أمر سقيهم، ثمّ أنّهم قالوا: إن فقد موسى عصاه، فأوحى الله تعالى إلى موسى لا تقرعنّ الحجارة ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون.
فقالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى الرّمل والى الأرض التي ليست فيها حجارة، فحمل موسى معه حجراً فحيث نزلوا ألقاه.
وقال الآخرون: كان حجراً مخصوصاً بعينه، والدليل عليه قوله تعالى: {الحجر} فأدخل الألف واللام للتعريف مثل قولك: رأيت الرجل، ثم اختلفوا فيه ما هو.
فقال ابن عباس: كان حجراً خفيفاً مربعاً مثل رأس الرجل أُمر أن يحمله وكان يضعه في مخلاته فإذا إحتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه.
وفي بعض الكتب: إنّها كانت رخاماً.
وقال أبو روق: كان الحجر من الكدان وكان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع من كلّ حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذوه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وكان يستسقي كل يوم ستمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير: هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل حين رموه بالأدرة ففرّ الحجر بثوبه ومرّ به على ملأ من بني إسرائيل حتى ظهر إنه ليس بأَدِر، فلما وقف الحجر أتاه جبرئيل فقال لموسى: إن الله يقول إرفع هذا الحجر فانّ فيه قدرة، فلك فيه معجزة، وقد ذكره الله تعالى في قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} [الأحزاب: 69]. فحمله موسى ووضعه في مخلاته فكان إذا احتاج إلى الماء ضربه بالعصا، وهو ما روي عن أبي هريرة إنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ إنه آدر قال: فذهب مرّة يغتسل فوضع موسى ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه قال: فجمع موسى في أثره يقول ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا والله ما بموسى من بأس قال فقام الحجر بعد ما نظر إليه وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً».
فقال أبو هريرة: وقد رأينا بالحجر ندباً ستة أو سبعة أثر ضرب موسى.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: كانت ضربة موسى اثني عشرة ضربة، وظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة، ثم انفجر بالأنهار المطرّدة وهو قوله: {فانفجرت}.
وفي الآية اضمار واختصار تقديرها: ضرب فانفجرت أي سالت، وأصل الانفجار: الانشقاق والانتشار، ومنه فجر النهار.
{مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} قرأ العامة بسكون الشيّن على التخفيف، وقرأ العباس بن الفضل الأنصاري بفتح الشين على الأصل، وقرأ أبو [.....] بكسر الشين.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} موضع شربهم ويكون بمعنى المصدر مثل المدخل، المخرج.
{كُلُواْ واشربوا} أي قلنا لهم: كلوا من المنّ، واشربوا من الماء؛ فهذا كلّه من رزق الله الذي بلا مشقة ولا مؤنة ولا تبعة.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ}: يُقال: عثى يعثي عثياً، وعثا يعثو عثواً، وعاث يعث عيثاً وعيوثاً بثلاث لغات وهو شدة الفساد.
قال ابن الرّقاع:
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثا *** فيه المشيب لزرتُ أمّ القاسم
{وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} الآية، وذلك أنهم ملّوا المنّ والسلوى وسئموها. قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عاداتهم عليه، فقالوا: لن نصبر على طعام واحد وكفّوا عن المنّ والسلوى، وإنما قالوا {واحد} وهما اثنان؛ لأن العرب تعبّر عن اثنين بلفظ الواحد، وبلفظ الواحد عن الاثنين كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرجان من المالح منهما دون العذب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المنّ والسلوى فيصير طعاماً واحداً فيأكلونه.
{فادع} فسأل وادعِ. {لَنَا} لأجلنا. {رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} قراءة العامة بكسر القاف.
وقرأ يحيى بن وثاب، وطلحة بن مصرف، والأشيب العقيلي: وقثائها بضم القاف، وهي لغة تميم.
{وَفُومِهَا}: قال ابن عباس: الفوم: الخبز، تقول العرب: فوّموا لنا، أي اختبزوا لنا.
عطاء وأبو مالك: هو الحنطة وهي لغة قديمة، قال الشاعر:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد *** نزل المدينة عن زراعة فوم
[.....]: هو الحبوب كلّها.
الكلبي والنضر بن شميل والكسائي والمعرّج: هو الثوم، وأنشد المعرّج لحسّان:
وأنتم أناس لئام الأصول *** طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل؛ فالعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول للصمغ العرفط: مغاثير ومغافير، وللقبر جدف وجدث، ودليل هذا التأويل أنها في مصحف عبد الله: وثومها.
{وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} عن الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالعدس فإنّه مبارك مقدّس وإنه يُرقق القلب ويُكثر الدمعة، وإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عيسى عليه السلام».
فقال لهم موسى عند ذلك: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} وفي مصحف أُبيّ: أتبدلون.
{الذي هُوَ أدنى} أخس وأردى.
حكى الفراء عن زهير العرقي: إنه قرأ {أدناء} بالهمزة، والعامة على ترك الهمزة، وقال بعض النحاة: هو أدون فقدّمت النون وحوّلت الواو ياء كقولهم: أولى من الويل.
{بالذي هُوَ خَيْرٌ} أشرف وأفضل، ومعناه: أتتركون الذي هو خير وتريدون الذي هو شر، ويجوز أن يكون هذا الخير والشر منصرفين إلى أجناس الطعام وأنواعه، ويجوز أن يكونا منصرفين إلى اختيار الله لهم، واختيارهم لأنفسهم.
{اهبطوا مِصْراً} يعني فإن أبيتم إلاّ ذلك فاهبطوا مصراً من الأمصار، ولو أراد مصر بعينها لقال: {مصر} ولم يصرفه كقوله: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله} [يوسف: 99] وهذا معنى قول قتادة.
الضحاك: هي مصر موسى وفرعون.
وقال الأعمش: هي مصر التي عليها صالح بن علي ودليل هذا القول: قراءة الحسن وطلحة: {مصر} بغير تنوين جعلاها معرفة، وكذلك هو في مصحف عبدالله وأُبيّ بغير ألف، وإنّما صرف على هذا القول لخفّته وقلّة حروفه مثل: دعد وهند وحمل ونحوها. قال الشاعر:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
{فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} من نبات الأرض.
{وَضُرِبَتْ} جُعلت. {عَلَيْهِمُ} وألزموا. {الذلة} الذل والهوان. قالوا: بالجزية، يدل عليه قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقال [.....]: هو الكستيبنج وزنة اليهودية.
{والمسكنة} يعني ذي الفقر. فتراهم كأنّهم فقراء وأن كانوا مياسير، وقيل: المذلة وفقر القلب فلا يرى في أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود، والمسكنة مفعلة من السكون، ومنه سُميّ الفقير مسكيناً لسكونه وقلّة حركاته. يُقال: ما في بني فلان أسكن من فلان، أي أفقر.
{وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله} أي رجعوا في قول الكسائي وغيره. أبو روق: استحقوا والباء صلة.
أبو عبيدة: احتملوا وأقرّوا به، ومنه الدعاء المأثور: (أبوء بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت)، وغضب الله عليهم: ذمّهُ لهم وتوعّده إياهم في الدنيا، وإنزال العقوبة عليهم في العقبى، وكذلك بغضه وسخطه.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وإنه الرحيم في التوراة والإنجيل والفرقان.
{وَيَقْتُلُونَ} قراءة العامة بالتخفيف من القتل، وقرأ السّلمي بالتشديد من التقتيل.
{النبيين} القراءة المشهورة بالتشديد من غيرهم، وتفرّد نافع بهمز النبيين، ومدّه فمن همز معناه: المخبر، من قول العرب: أنبأ النبي أنباءاً، ونبّأ ينبيء تنبئة بمعنى واحد، فقال الله عزّ وجلّ: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا} [التحريم: 3] ومن حذف الهمز فله وجهان: أحدهما: إنه أراد الهمز فحذفه طلباً للخفّة لكثرة استعمالها، والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الرّفيع مأخوذ من النبؤة وهي المكان المرتفع، يقال: نبيء الشيء عن المكان، أي ارتفع.
قال الشاعر:
إنّ جنبي عن الفراش لناب *** كتجافي الأسرّ فوق الظراب
وفيه وجه آخر: قال الكسائي: النبي بغير همز: الطريق، فسمّي الرسول نبياً، وإنما دقائق الحصا لأنّه طريق إلى الهدى، ومنه قول الشاعر:
لاصبح رتما دقاق الحصى *** مكان النبي من الكاثب
ومعنى الآية: ويقتلون النبيّين.
{بِغَيْرِ الحق} مثل أشعيا وزكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء، وفي الخبر: إنّ اليهود قتلوا سبعين نبياً من أوّل النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم.
{ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} يعني اليهود، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به. فقال بعضهم: سمّوا بذلك لأنهم هادوا أي تابوا من عبادة العجل، كقوله أخباراً عنهم: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156].
وأنشد أبو عبيدة:
إنّي امرؤ من مدحه هائد ***
أي تائب.
وقال بعضهم: لأنّهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يُقال: هاد يهود هوداً: إذا مال. قال امرؤ القيس:
قد علمت سلمى وجاراتها *** أنّي من الناس لها هائد
أي إليها مائل.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنّهم يتهوّدون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة، ويقولون: إنّ السموات والأرض تحرّكت حين أتى الله موسى التوراة.
وقرأ أبو السمّاك العدوي واسمه قعنب: هادَوا بفتح الدال من المهاداة، أي مال بعضهم إلى بعض في دينهم.
{والنصارى} واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم، فقال الزهري: سمّوا نصارى لأنّ الحواريّين قالوا: نحن أنصار الله.
مقاتل: لأنّهم تولوا قرية يُقال لها: ناصرة، فنُسبوا إليها.
وقال الخليل بن أحمد: النصارى: جمع نصران، كقولهم: ندمان وندامى.
وأنشد:
تراه إذا دار العشيّ محنّفاً *** ويضحى لربّه وهو نصران شامس
فنسبت فيه ياء النسبة كقولهم لذي اللحية: لحياني، ورقابي لذي الرقبة.
فقال الزجاج: يجوز أن يكون جمع نصري كما يُقال: بعير حبري، وإبل حبارى، وإنما سمّوا نصارى لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى وأمّه.
{والصابئين} قرأ أهل المدينة بترك الهمزة من الصّابئين والصّابئون الصّابين والصّابون في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالهمز وهو الأصل، يُقال: صبا يصبوا صبوءاً، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
قال الفرّاء: يُقال لكل من أحدث ديناً: قد صبأ وأصبأ بمعنى واحد، وأصله الميل، وأنشد:
إذا أصبأت هوادي الخيل عنّا *** حسبت بنحرها شرق البعير
واختلفوا في الصّابئين من هم:
قال عمر: هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب، وبه قال السدي.
وقال ابن عباس: لا تحل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم.
وقال مجاهد: هم قبيلة نحو الشّام بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب، وهو رأي أبي حنيفة.
وقال قتادة ومقاتل: هم قوم يقرّون بالله عزّ وجلّ، ويعبدون الملائكة، ويقرأون الزبور ويصلّون إلى الكعبة، أخذوا من كل دين شيئاً.
الكلبي: هم قوم بين اليهود والنصارى، يحلقون أوساط رؤوسهم ويُحبّون ذاكرهم.
عبد العزيز بن يحيى: درجوا وانقرضوا فلا عين ولا أثر.
{مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} اختلفوا في حكم الآية ومعناها، ولهم فيها طريقان:
أحدهما: إنّه أراد بقوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} على التحقيق وعقد التصديق، ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين من هم؟ فقال قوم: هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يصبئوا، وانتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هم طلاّب الدين، منهم: حبيب النجّار، وقيس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء السّندي، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ويحيى الراهب، ووفد النجاشي. آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فمنهم من أدركه وتابعه، ومنهم من لم يدركه.
وقيل: هم مؤمنو الأمم الماضية.
وقيل: المؤمنون من هذ الأُمة.
{والذين هَادُواْ} يعني الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ولم يبدّلوا ولم يغيّروا.
{والنصارى}: الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك.
قالوا: وهذان اسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام، حيث كانوا على الحق فبقي الاسم عليهم كما بقي الإسلام على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم والصابئين زمن استقامتهم من آمن منهم أي مات منهم وهو مؤمن؛ لأنّ حقيقة الإيمان المؤاخاة.
قال: ويجوز أن تكّون الواو فيه مضمراً: أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة.
والطريق الآخر: إنّ المذكورين في أول الآية بالإيمان إنّما هو على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة، ثمّ اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: إنّ الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة ولم يؤمنوا بك ولا بكتابك.
وقال آخرون: يعني به المنافقين أراد: إنّ الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، والذين هادوا: أي اعتقدوا اليهودية وهي الدين المبدّل بعد موسى عليه السلام، والنصارى: هم الذين اعتقدوا النصرانية والدّين المبدّل بعد عيسى، والصابئين: يعني أصناف الكفّار من آمن بالله من جملة الأصناف المذكورين في الآية.
وفيه اختصار وإضمار تقديره: من آمن منهم بالله واليوم الآخر؛ لأنّ لفظ (من) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث.
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]. قال: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31]، وقال الفرزدق في التشبيه:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني *** تكن مثل من ناديت يصطحبان
{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما قدّموا.
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلّفوا، وقيل: لا خوف عليهم بالخلود في النار، ولا يحزنون بقطيعه الملك الجبّار، ولا خوف عليهم من الكبائر وإنّي أغفرها، ولا هم يحزنون على الصغائر فأنّي أكفّرها.
وقيل: لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام.


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} يا معشر اليهود. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدنيا إلاّ وهي في القرآن.
وقال أبو عبيدة والحُذّاق من العلماء: لا يجوز أن تكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأن الله تعالى قال: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2]، [طه: 113]، [الزمر: 28]، [فُصّلت: 3]، [الشورى: 7]، [الزخرف: 3] وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] وإنّما هذا وأشباهه وفاق بين اللّغتين.
وقد وجدنا الطّور في كلام العرب، وقال جرير:
فإن ير سليمان الجنّ يستأنسوا بها *** وإن ير سليمان أحب الطّور ينزل
وقال المفسّرون: وذلك أنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى وأمر قومه بالعمل بأحكامه فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال الّتي فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله تعالى جبرئيل عليه السلام يضع جبلاً على قدر عسكره وكان فرسخاً في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرّجل.
أبو صالح عن ابن عبّاس: أمر الله تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتّى قام على رؤوسهم مثل الظلّة.
عطاء عن ابن عبّاس: رفع الله فوق رؤوسهم الطّور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم وقيل لهم: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم} أي أعطيناكم.
{بِقُوَّةٍ} بجدّ ومواظبة. وفيه إضمار، أي: وقلنا لهم: خذوا.
{واذكروا مَا فِيهِ} أي احفظوه واعلموه واعملوا به و(في) حرف أولي فاذّكروا بذال مشددة وكسر الالف المشددة و(في) حرف وانه وتذكروا ما فيه ومعناهما اتعظوا به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تنجوا من الهلاك في الدّنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلاّ رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النّار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا لك وسجدوا خوفاً وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون إلاّ على أنصاف وجوههم فلمّا زال الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم وعصيتم.
{مِّن بَعْدِ ذلك} أي من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل.
{فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتأخير العذاب عنكم.
{لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين} لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} وذلك أنهم كانوا من داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرّم الله عليهم صيد السمّك يوم السبت فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلاّ اجتمع هناك حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء لأمنها، فإذا مضى السبت تفرّقن ولزمن البحر فذلك قوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تطيق الخروج لبعد عمقها وقلّة الماء فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، ففعلوا ذلك زماناً فكثرت أموالهم ولم تنزل عليهم عقوبة، فقست قلوبهم وأصرّوا على الذّنب، وقالوا: ما نرى السّبت إلاّ قد أحلّ لنا، فلمّا فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا سبعين ألفاً ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الّذين نهوا إثنا عشر ألفاً فلمّا أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون: والله لا نُساكِنكم في قرية واحدة، فقسّموا القرية بجدار وغيروا بذلك سنتين فلعنهم داود وغضب الله عزّ وجلّ عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم والمجرمون لم يفتحوا أبوابهم ولا خرج منهم أحد فلمّا أبطأوا تسوّروا عليهم الحائط فإذا هم جميعاً قردة فمكثوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا، ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام ولم يتوالدوا فذلك قوله عزّ وجلّ {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} أمر تحويل.
{خَاسِئِينَ} مطرودين صاغرين بلغة كنانة، قاله مجاهد وقتادة والربيع.
قال أبو روق: يعني خرساً لا يتكلّمون، دليله قوله عزّ وجلّ {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].
وقيل: مبعدون من كلّ خير.
{فَجَعَلْنَاهَا} أي القردة، وقيل: القرية، وقيل: العقوبة.
{نَكَالاً} عقوبة وعبرة وفضيحة شاهرة، وأصله من النكل وهو القيد، وجمعه أنكال، ويقال للّجام نكل.
{لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} قال أبو العالية والرّبيع: معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لما بعدهم.
قتادة: جعلنا تلك العقوبة جزاءً لما تقدّم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصّيد وما خلفها من العصيان بأخذ الحيتان بعد النّهي.
وقيل: لما بين يديها من عقوبة الآخرة وما خلفها من نصيحتهم في دنياهم فيذكّرون بها إلى يوم قيام السّاعة.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير؛ وتقديرها: فجعلناها وما خلفها ممّا أعدّ لهم من العذاب في الآخرة نكالاً وجزاءاً لما بين يديها: أي لما تقدّم من ذنوبهم في اعتدائهم يوم السّبت.
{وَمَوْعِظَةً} عظة وعبرة. {لِّلْمُتَّقِينَ} للمؤمنين من أُمّة محمّد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} الآية: وذلك إنّه وجد قتيل في بني إسرائيل إسمه عاميل ولم يدروا قاتله واختلفوا في قاتله والسبب في قتله فقال عطاء والسّدي: كان في بني اسرائيل رجل كثير المال وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره فلمّا طال عليه موته قتله ليرثه.
وقال بعضهم: وكان تحت عاميل بنت عم له لم يكن لها مثلاً في بني إسرائيل بالحسن والجمال فقتله ابن عمّه لينكحها.
وقال ابن الكلبي: قتله ابن أخيه لينكح إبنته فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك.
وقيل: ألقاه بين قريتين.
عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له إثنا عشر باباً لكلّ سبط منهم باب فوجد قتيل على باب سبط.
قيل: وجرّ إلى باب سبط آخر فاختصم فيه السبطان.
وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثمّ إحتمله فوضعه على باب رجل منهم ثمّ أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قال: فجاء أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادّعوا عليهم القتل وسألوا القصاص فسألهم موسى عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف.
وقال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعوا الله ليبيّن لهم ذلك فسأل موسى ربّه فأمرهم بذبح بقرة. فقال لهم موسى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}.
{قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} يا موسى أي أتستهزيء بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة وإنّما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظّاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه.
وقرأ ابن محيصن: أيّتخذنا بالياء قال: يعنون الله ولا يستبعد هذا من جهلهم لأنّهم الّذين قالوا {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
وفي هذا ثلاثة لغات هزواً: بالتخفيف والهمز ومثله كُفواً وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف وإسماعيل.
وهزواً وكفواً مثقلان مهموزان وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام واختيار الكسائي وأبي عبيد وأبي حاتم.
وهزواً وكفواً مثيلان بغير همزة وفي رواية حفص بن سليمان البزّاز عن عاصم وكلّها لغات صحيحة معناها الاستهزاء فقال لهم موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي من المستهزئين بالمؤمنين فلمّا علم القوم إنّ ذبح البقرة عزم من الله عزّ وجلّ سألوه الوصف.
{قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} ولو أنّهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وإنّما كان تشديدهم تقديراً من الله عزّ وجلّ وحكمة، وكان السبب في ذلك على ما ذكره السّدي وغيره.
إنّ رجلاً في بني إسرائيل كان بارّاً بأبيه وبلغ من برّه به إنّ رجلاً أتاه بلؤلؤة فأبتاعها بخمسين ألفاً وكان فيها فضل فقال للبائع أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتّى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأيقظ أباك واعطني المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلأف فانتظرني حتّى ينتبه أبي.
فقال الرّجل: فأنا أعط عنك عشرة آلاف إنْ أيقظت أباك وعجلت النقد. قال: وأنا أزيدك عشرين ألفاً إنْ انتظرت إنتباه أبي. ففعل ولم يوقظ الرجل أباه فأعقبه برّه بأبيه أن جعل تلك البقرة عنده وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.
قال ابن عبّاس ووهب وغيرهما: كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل إلى غيضة وقال: اللّهمّ إنّي استودعك هذه العجلة لابني حتّى يكبر ومات الرّجل فسبيت العجلة في الغيضة وصارت عواناً وكانت تهرب من كل مَن رامها.
فلمّا كبر الابن كان بارّاً بوالدته وكان اللّيلة يقسّم ثلاثة أثلاث: يصلّي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فاذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي به السّوق فيبيعه بما شاء الله ثّم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثاً، وقالت له أمّه يوماً: إنّ أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضه كذا استودعها الله عز وجل فانطلق اليها فأدعُ اله ابراهيم واسماعيل وإسحاق بأن يردّها عليك، وان من علامتها إنّك إذا نظرت إليها يخيّل إليك إنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تسمى المذهّبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى وقال: أعزم عليك بآله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه فقبض على عنقها وقادها فتكلمت البقرة بأذن الله وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته إركبني فأنّ ذلك أهون عليك. فقال الفتى، إنّ أُمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذها بعنقها فقالت البقرة: بأله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليَّ أبداً فأنطلق فأنّك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك بوالدتك. وسار الفتى فاستقبله عدوّ الله إبليس في صورة راع فقال: أيّها الفتى إنّي رجل من رعاة البقر إشتقت إلى أهلي فأخذت ثوراً من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتّى إذا بلغت شطر الطّريق ذهبت لأقضي حاجتي صعداً وسط الجبل وما قدرت عليه وإنّي أخشى على نفسي الهلاك، فأن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجني من الموت واعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى وقال: إذهب فتوكّل على الله فلو علم الله منك اليقين بلغك بلا زاد ولا راحلة فقال إبليس: فأن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشرة مثلها فقال الفتى: إنّ امّي لم تأمرني بهذا فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة ونفرت البقرة هاربة في الفلاة وغاب الرّاعي فدعاها الفتى بأسم آله إبراهيم فرجعت إليه البقرة فقالت أيّها الفتى البار بوالدته ألم تر إلى الطائر الذي طار إنّه إبليس عدو الله إختلسني أمّا إنّه لو ركبني لما قدرت عليَّ أبداً فلمّا دعوت آله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردّني إليك لبرّك بوالدتك وطاعتك لها.
فجاء بها الفتى إلى أمّه، فقالت له: إنّك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار والقيام باللّيل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال بكم أبيعها؟
قالت: بثلاثة دنانير ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي وكانت ثمن البقرة في ذلك الوقت فانطلق بها الفتى إلى السّوق فبعث الله ملكاً إنساناً خلقه بقدرته ليخبر الفتى كيف برّه بوالدته وكان الله به خبيراً فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟
قال: بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي.
فقال الملك: ستّة دنانير ولا تستأمر أمّك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلاّ برضا أمّي فردّها إلى امّه وأخبرها بالثّمن فقالت: ارجع فبعها ستّة على رضاي فإنطلق الفتى بالبقرة إلى السوق وأتى الملك وقال: استأمرت والدتك؟
فقال الفتى: انّها أمرتني أن لا أنقصها من ستة على أن أستأمرها. قال الملك: فأنني أعطيك إثني عشر على أن لا تستأمرها.
فأتى الفتى ورجع إلى أمّه واخبرها بذلك قالت: إنّ ذلك الرجل الّذي يأتيك ويعطيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجرّبك فإذا أتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟
ففعل ذلك فقال له الملك: إذهب إلى أمّك وقل لها بكم هذه البقرة؟ فأنّ موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعوها إلاّ بملء مسكها دنانير فأمسكوا البقرة، وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها وأمرهم بها فقالوا يستوصفون ويصف لهم حتّى وصف تلك البقرة بعينها موافاة له على برّه بوالدته فضلاً منه.
فضلاً منه ورحمة وذلك قوله عزّ وجلّ {ادع لَنَا رَبَّكَ} أيّ سل وهكذا هو في مصحف عبد الله، سلّ لنّا ربّك يبين لنا ماهي؟ وما سنّها؟
قال موسى: إنّه يُعني إن الله يقول: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} لا كبيرة ولا صغيرة وارتفع البكر والفارض بأضمار هي إذ لا هي فارض ولا هي بكر.
مجاهد وأبو عبيدة والأخفش: الفارض الكبيرة المسنّة التي لا تلد يقال له: فرضت تفرض فروضاً.
قال الشاعر:
كميت بهيم اللون ليس بفارض *** ولا بعوان ذات لون مخصف
وقال الرّاجز:
يا رُبَّ ذي ضغن عليّ فارض *** له قروء كقروء الحائض
أيّ حقد قديم، والبكر: الفتية الصغيرة التي لم تلد قط.
وقال السّدي: البكر: التي لم تلد إلاّ ولداً واحداً وحذف الحاء منها للأختصاص.
{عَوَانٌ} نصف بين سنيّن، وقال الأخفش: العوان التي نتجت مراراً وجمعه عون، ويُقال منه: عونت تعويناً.
{فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} من ذبح البقرة ولا تكرّروا السؤال.
{قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} محل {ما} رفع بالأبتداء و{لَوْنُهَا} خبر، وقرأ الضّحاك {لونها} نصباً كانّه عمل فيه لسببين وجعل ما صلة.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا}.
قال ابن عبّاس: شديد الصفرة وقال عدي بن زيد:
واني لأسقي الشرب صفراً فاقعاً *** كأن ذكيّ المسك فيها يعبّق
قتادة وأبو العالية والربيع: صاف.
سعيد بن جبير: صفراء اللون والظلف.
الحسن: السوداء، والعرب تسمي الأسود أصفر. قال الأعشى:
تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هن صفر أولادها كالزبيب
قال القتيبي: غلط من قال الصفراء هاهنا السوداء؛ لأنّ هذا غلط في نعوت البقر.
وإنّما هو في نعوت الإبل؛ وذلك أنّ السّوداء من الإبل شربت سوادها صفرة، والآخر إنّه لو اراد السّوداء لما أكده بالفقوع لأنّ الفاقع المبالغ في الصّفرة. كما يُقال: أبيض يفق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر.
{تَسُرُّ الناظرين} إليها وتعجبهم من حسنها وصفاء لونها؛ لأنّ العين تُسر وتولع بالنظر إلى الشيء.
الحسن قال: من لبس نعلاً صفراء قلّ همّه لأنّ الله يقول: صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} أسائمة أم عاملة.
{إِنَّ البقر} هذه قراءة العامة، قرأ محمد ذو الشامة الأموي إن الباقر وهو جمع البقر كالجامل لجماعة الجمل وقال الشاعر:
مالي رأيتك بعد عهدك موحشاً *** خلقاً كحوض الباقر المتهدّم
قال قطرب: تجمع البقرة بقر، وباقر، وبقير، وبقور، وباقور. فأن قيل: لما قال تشابه والبقر جمع فلم لم يقل تشابهت؟ قيل فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: إنّه ذكر لتذكير بلفظ البقر، كقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20].
وقال المبرّد: سُئل سيبويه عن هذه الآية؟
فقال: كل جمع حروفه أقل من حروف واحد فإنّ العرب تُذكّره، واحتج بقول الأعشى:
ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل ***
ولم يقل مرتحلون، وقال الزّجاج: معناه إنّ جنس البقر تشابه علينا.
{تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وفي تشابه سبع قراءات:
تشابه: بفتح التاء والهاء وتخفيف الشّين وهي قراءة العامة وهو فعل ماض ويذكر موحد.
وقرأ الحسن: تشابه: بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشّين اراد تَشابهُ.
وقرأ الأعرج: تشابه: بفتح التاء وتشديد الشّين وضم الهاء على معنى يتشابه.
وقرأ مجاهد: تشبّه، كقراءة الأعرج إلاّ إنّه بغير ألف لقولهم: تحمل وتحامل.
وفي مصحف أُبي: تشابهت على وزن تفاعلت فالتاء لتأنيث البقر.
وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت بتشديد الشين قال أبو حاتم: هذا غلط لأن التاء لا تدغم في هذا الباب إلاّ في المضارعة.
وقرأ الأعمش: متشابه علينا جعله أسماً.
ومعنى الآية: إلتبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه.
{وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأيم الله لئن لم يستبينوا لما تبينت لهم آخر الأبد».
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} مذلّلة بالعمل يُقال: رجل ذليل بيّن الذّل، ودابة ذلولة بيّنة الذّل.
{تُثِيرُ الأرض} أي مثلها للزراعة.
{وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ} بريئة من العيوب، وقال الحسن: مسلّمة القوائم ليس فيها أثر العمل.
{لاَّ شِيَةَ فِيهَا} قال عطاء: لا عيب فيها.
قال قتادة: لا بياض فيها أصلاً.
مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد.
محمّد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها. فلما قال هذا {قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق} أي بالوصف التام البين.
قيل: كانت البقرة التي أحيا بها القتيل لوارثه الذي قتله، وكان أوّل من فتح السؤال عنها رجاء أن لا يجدوها فطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلاّ عند الفتى البار.
فاشتروها منه بملء مسكنها ذهباً.
وقال السدّي: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهباً.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} من غلاء ثمنها.
وقال محمّد بن كعب: وما كادوا يجدونها بإجتماع أوصافها.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} يعني عاميل، وهذه الآية أوّل القصّة.
{فادارأتم} فاختلفتم {فِيهَا} قاله ابن عبّاس ومجاهد ومنه قول القائل في رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يُزكي فكان خير شريك لا يداري ولا يُماري.
قال الضّحاك: اختصمتم.
عبد العزيز بن يحيى: شككتم.
الربيع بن أنس: تدافعتم، وأصل الدراء: الدفع يعني ألقى ذلك على هذا وهذا على ذاك؛ فدافع كل واحد عن نفسه كقوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22]، وقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} [النور: 8]، وأصل قوله [.........] والباء صلة.
أبو عبيدة: احتملوا وأقروا به، ومنه الدُّعاء المأثور [.........] وأصل: فادارأتم فتدارأتم فأُدغمت التاء في الدّال وادخلت الألف ليسلم سكون الحرف الأولي بمثل قوله: {اثاقلتم} [التوبة: 38].
{والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} تخفون.
{فَقُلْنَا اضربوه} يعني القتيل.
{بِبَعْضِهَا} أي ببعض البقرة: فاختلفوا في هذا البعض ما هو؟
فقال ابن عبّاس: اضربوه بالعظم الذي يلي الفخذين وهو المقتل.
الضحّاك: بلسانها. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنّ المراد كان من احياء القتيل كلامه واللسان آلته.
سعيد بن جبير: ضربت بذنبها. قال يمان: وهو أولى التأويلات بالصواب لأنّ العصعص أساس البدن الذي ركب عليه الخلق وأنّه أوّل ما يخلق وآخر ما يُبلى.
مجاهد: بذنبها.
عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن.
السّدي: بالبضعة التي بين كتفيها، وقيل: باذنها.
ففعلوا ذلك فقام القتيل حيّاً بإذن الله وأوداجها تشخب دماً وقال: قتلني فلان. ثمّ سقط ومات مكانه، وفي الآية اختصار، وتقديرها: فقلنا اضربوه ببعضها فضرب فحيي كقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] يعني فافطر فعدة، وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي فحلق ففدية.
{كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى} كما أحيا عاميل بعد موته كذلك يُحيي الله الموتى.
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} دلائل آياته. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال الواقدي: كل شيء في القرآن فهو بمعنى لكي غير التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] فإنه بمعنى: كأنّكم تخلدون فلا تموتون.


{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ} قال الكلبي: قالوا بعد ذلك لم نقتله، وأمكروا فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك قال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} الكلبي وأبو روق: يبست واشتدت وقال سائق البربري:
ولا ارى أثراً للذكر في جسدي *** والحبل في الجبل القاسي له أثر
أبو عبيدة: جفّت.
الواقدي: جفّت من الشّدة فلم تلن.
المؤرّخ: غلظت، وقيل: اسودّت.
قال الزجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين، وقال سيبويه والخشوع والخضوع.
{ذلك} أي بعد ظهور الدلالات.
{فَهِيَ} غلظها وشدتها.
{كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بل أشد قسوة كقول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل، وقيل: هو بمعنى الواو والألف صلة أي وأشد قسوة. كقوله تعالى: {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] أيّ وكفوراً.
وقرأ أبو حياة: أو أشد قساوة، وقال الكسائي: القسوة والقساوة واحد كالشقوة والشّقاوة ثمّ عذر الحجارة وفضلها على القلب القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار} وقرأ مالك بن دينار ينفجر بالنون كقوله: {فانفجرت} [البقرة: 60]، وفي مصحف أُبي: منها الأنهار ردّ الكناية إلى الحجارة.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي يتشقق هكذا قرأها الأعمش.
{فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله.
{مِنْ خَشْيَةِ الله} عزّ وجلّ وقلوبكم يا معاشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير.
{وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وتهديد أي بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به.
{أَفَتَطْمَعُونَ} أي فترجون يعني محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
{أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} لن يصدّقكم اليهود.
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} طائفة منهم.
{يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله} يعني التوراة.
{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} أي يُغيرونه أي ما فيه من الأحكام.
{مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} علموه وفهموه كما غيّروا آية الرّجم وصفه محمّد صلى الله عليه وسلم.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إنهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسّدي.
وقال ابن عبّاس ومقاتل: نزلت هذه الآية في السبعين المختارين؛ وذلك إنّهم لما ذهبوا مع موسى إلى الميقات وسمعوا كلام الله وما يأمره وما ينهاه رجعوا إلى قومهم فأمّا الصّادقون فأدّوا كما سمعوه وقالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إنْ إستطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا فأن شئم فلا تفعلوا ولا بأس.
{وَإِذَا لَقُواْ} قرأ ابن السُّميقع لاقوا: يعني منافقي اليهود.
{الذين آمَنُواْ} بألسنتهم لا بقلوبهم أبا بكر وأصحابه من المؤمنين.
{قالوا آمَنَّا} كأيمانكم وشهدنا أنّ محمداً صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته.
{وَإِذَا خَلاَ} رجع بعضهم إلى بعض أي كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود ولامُوهم على ذلك و{قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أنّ محمّداً حق وقوله صدق، وقال القاضي الفتاح الكسائي: بما بيّنه لكم في كتابكم من العلم ببعث محمد والبشارة به.
الواقدي: بما أنزل الله في الدنيا والآخرة عليكم نظير {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] أي أنزلناه.
أبو عبيدة والأخفش: بما منّ الله عليكم وأعطاكم.
{لِيُحَآجُّوكُم} ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم يعني أصحاب محمد.
{بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} وقال بعضهم: هو أنّ الرجل من المسلمين كلما يلقي قرينه وحليفه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمّد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنّه لحق فيقولون قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثمّ تتبعونه وهو نبيّ. فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك.
قال السّدي: كان ناس من اليهود آمنوا ثمّ نافقوا وكان يحدثون المؤمنين بما عُذبوا به فقال لهم رؤسائهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي أنزل من العذاب ليعُيروكم به ويقولوا: نحن أكرم على الله منكم.
ابن جرير عن القاسم بن أبي برة: هذا قول يهود قريظة بعضهم لبعض حين سبّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطّاغوت، فقالوا: من أخبر محمّداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاّ منكم.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانيّة.
قال الله {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ما يخفون وما يبدون يعني اليهود، وقرأ ابن محيصن {ما} على الخطاب {وَمِنْهُمْ} من اليهود.
{أُمِّيُّونَ} قال ابن عبّاس وقتادة: يعني غير عارفين معاني الكتاب. يعلمونه حفظاً وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه.
وقال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته ودليل هذا التأويل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا أُمّة أُمّية لا نكتب ولا نحاسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا».
وقال أهل المعاني: الأُمّي منسوب إلى الأمة وما عليه العامة معنى الأُمي: العامي الذي لا تمييز له، أو هو جمع أُمي منسوب إلى الأُم كأنّه باق على الحقيقة حذفت منه هاء التأنيث لأنّها زائدة وياء النسبة زائدة، ونقلت فرقاً بينها وبين ياء الأضافة.
{لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} قرأ العامّة بتشديد الياء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج {أَمَانِيَّ} بتخفيف الياء في كلّ القرآن حذفوا إحدى اليائين استخفافاً وهي ياء الجمع مثل مفاتح ومفاتيح.
وقال أبو حاتم: كل جمع من هذا الجنس واحد مشدّد فلك فيه التّضعيف والتشديد مثل فخاتي وأماني وأغاني وغيرها واختلفوا في معنى الأمانيّ، وقال الكلبي بمعنى لا يعلمون إلاّ ما تحدّثّهم بهم علماؤهم.
أبو روق وأبو عبيدة: تلاوة وقراءة على ظهر القلب ولا يقرؤنها في الكتب، يدلّ عليه قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] وقرآنه.
قال الشاعر:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر
مجاهد وقتادة: كذباً وباطلاً.
الفرّاء: الأماني: الأحاديث المفتعلة.
قال بعض العرب لابن دلب: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟
وأراد بأماني الأنبياء التّي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثمّ أضافوها إلى الله عزّ وجلّ من تغيير نعت محمّد صلى الله عليه وسلم.
الحسن وأبو العالية: يعني يتمنوّن على الله الباطل والكذب مثل قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} [البقرة: 111]، وقولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
{وَإِنْ هُمْ} ما هم. {إِلاَّ يَظُنُّونَ} ظنّاً ووهماً لا حقيقة ويقيناً قاله قتادة والرّبيع.
وقال مجاهد:... يكذبون.
{فَوَيْلٌ} روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ إلى قعره».
سعيد بن المسيب: وادٍ في جهنّم لو سرت فيه جبال الدّنيا لماعت من شدّة حرّها.
ابن بريدة: جبل من قيح ودم.
ابن عبّاس: شدّة العذاب.
ابن كيسان: كلمة يقولها كلّ مكروب.
الزجّاج: كلمة يستغلّها كل واقع في الهلكة وأصلها العذاب والهلاك.
وقيل: هو دعاء الكفّار على أنفسهم بالويل والثّبور.
{لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وذلك إنّ أحبار اليهود خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة واحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوّراة وكان صفته فيها حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العين، ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طويل أزرق، سبط الشعر. فإذا سألهم سفلتهم عن محمّد صلى الله عليه وسلم قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفة محمّد صلى الله عليه وسلم فيكذبونه قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} من تغيير نعت محمّد.
{وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من المأكول ولفظة الأيدي للتأكيد كقولهم مشيت برجلي ورأيت بعيني. قال الله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
قال الشّاعر:
نظرت فلم تنظر بعينك منظراً ***
وقال أبو مالك: نزلت هذه الآية في الكاتب الّذي يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قرأ البقرة وآل عمران، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يملي: غفوراً رحيماً، فيكتب: عليماً حكيماً، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم «اكتب كيف شئت» ويملي عليه: عليماً حكيماً، فيكتب: سميعاً بصيراً، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اكتب كيف شئت» قال: فارتدّ ذلك الرّجل عن الإسلام ولحق بالمشركين. قال: أما يعلمكم محمّد صلى الله عليه وسلم أن كنت لأكتب ما شئت أنا، فمات ذلك الرّجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الأرض لا تقبله».
قال: فأخبرني أبو طلحة: إنّه أتى الأرض الّتي بات فيها فوجده منبوذاً، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: دفنّاه مراراً فلم تقبله الأرض.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8